وفاء
( بحر : المتقارب )
شعر : حمد الراشدي
مسقط
١٨ صفر ١٤٤٥ هـ - ٤ سبتمبر ٢٠٢٣ م
وسيعُ الفؤاد سريعُ النّدى
يَحوزُ المَحامدَ حَوْزَ الجَدا (١)
لهُ العَزَماتُ كبُشْرى الرّياحِ
تُجيبُ المُنادي بغيثٍ هَمى
لطيفُ المَقالِ كهمْسِ الصّباحِ
كثيرُ الوِصالِ كنُورِ المَسا
يَرِفُّ بحُنْوٍ كرَفِّ الغُصونِ
فيأتي النَّسيمُ بطيبِ الشَّذى
نَبيتُ الليالي بنَقْرِ السّؤالِ
لماذا نداوي ؟ وما مِنْ شِفا
ومَنْ ذا أرانا الطريقَ نُزولاً
وسدَّ الصُّعودَ بقافٍ وفا
بهذا بَدَتْني حواراً رماني
ذُهولَ الوليعِ بقلْبي وفا
على ضِفَّةِ " الرَّيْنِ " لاقيْتُها (٢)
كحيلةَ عَيْنَيْنِ كُحْلَ الْمَها
أبانَتْ جُفوناً كقَوْسِ الحَيا
تَبُثُّ الجَمالَ كزَهْر الرُّبى
كورْدٍ ونَرْدٍ بدا خَدُّها
ومِرْآةِ بَدرٍ أنيسِ السُّرى
رأيْتُ بها السّنْخَ مِن جِلْدةٍ (٣)
وسَمْتٍ ونُطْقٍ مِنَ العُرْبِ جا
أدارتْ حديثاً على دكَّةٍ
نصافِحُ نهْراً نُجيلُ الرُّؤى
وكان الحِوارُ بنَفْخٍ تَحَمّى
تُريدُ خلاصاً يُزيحُ العَنا
تقولُ : النّوائبُ ألْقَتْ بها
وجاءتْ بقلْبٍ مَهيضِ الرّجا
بجسْمٍ تُلِفَّظَ مِن دارهِ
وروحٍ تَولَّتْ ذِمامَ البقا
تُعاني مرارَ الفراقِ الذي
تعيشُ احْتِباساً بطعمِ القَذى
وما فارقَتْ مِنْ بلادٍ ولكنْ
بَراها البعادُ بشَوْقِ الضّنى
وليس لها الإخْتيارُ ولا
تَأتّى خَيارٌ يُريحُ الخُطى
وحُكْمُ البعادِ غدا دَيْدناً
يَسومُ الأنامَ سَوامَ الجِدا (٤)
وما عاشَ قوْمٌ قريري العيونِ
وإنْ حاوَلوهُ بطولِ المَدى
هناك - تقولُ - اعْتَرى أهلَها
جُحودُ الليالي وعَصْفُ البَلا
سماءٌ تُزَمْجِرُ رَعْداً وحَرباً
وأرضٌ تفورُ بطينٍ غَلى
ووَحْشُ الصِّراعِ سَمينٌ يُغَذَّى
وحظٌّ تَعيسٌ يُعاني العَمى
وفي كلِّ يومٍ يُقالُ : تعالوا
لنَفتَحَ فصْلاً يَفضُّ الشَّقا
ونَقرأَ دَرْساً صحيحَ الحروفِ
ونكتُبَ عَهداً بِحِبْرِ الوَفا
فيُدْعى ويُحْمى وتُخْلى الدُّروبُ
ونَرْفَعُ أيْدٍ بكَفِّ الدُّعا
وبعدَ الأثافي ونَحْرِ الأضاحي
وهَرْجِ الصّحافِ نُقيمُ العَزا
فلا هَوْلَ ولَّى بِحَرِّ العِناقِ
ولا حَوْلَ إلاّ لحَنْيِ الطُّلا (٥)
وباتَ الهُتافُ بصوْتِ الحَيارى
يُغَمْغِمُ فينا خُفوتَ الصّدى
وعاد المَعيشُ ظلاماً وناراً
وعاد التّلَظّي كما قد بدا
وفي حَوْمةِ السّردِ كانت وفاءُ
تُكَفكِفُ دَمْعاً كحَبِّ الفَنا (٦)
مَزيجٌ ببَوْحٍ جريحٍ وتَفْريغِ -
هَمٍّ تَغَوَّلَ حتى ارْتَبا
أُراقِبُ فيها اللآلي انْسجاماً
وأحْسدُها لَمْسَ خَدٍّ قَنى
وللثَّغْرِ إعْسالُ ريقٍ تراهُ
كما لو زُلالٌ بنورٍ سنا
وتحتارُ عَيْنايَ فيما تَدَلَّى
أثيثٍ تَراسلَ ظِلاًّ ثَنى
وفي الْكتْفِ مِنها تُريكَ اسْتِواءً
على ضمْرِ خصْرٍ كباءٍ ورا
هُوَ الحُسْنُ إذْ تَسْتطيرُ قُواهُ
فَيُمْلي على القلبِ أنْ يُذْعِنا
وكمْ بالمحاسنِ يُغْرَى الفَتى
وإنْ كان مِمَّنْ وقى أو عَتى
وأجَّلْتُ تَطْفيفَ حُبٍّ جرى
كجَرْيِ الدِّماءِ رَوَتْ أبْهَرا (٧)
لصَوْتٍ لِبُوقِ سفينةِ نَهرٍ
أحالَ الخيالَ ، وكمْ رَوَّعا
وهذا الهُتافُ أتاحَ الْتِفاتاً
إلى ما بشَرقِ الضِّفافِ اعْتَلى
مَبانٍ وقاعِدةٌ للحليفِ -
الكبيرِ اسْتَقَرَّ لكَفِّ العِدى
ولو أنْ بِ " فِزْبادِنٍ " مَنْ يَقولُ (٨)
بقاءُ الجنودِ كجيشٍ غزا
و ل " الرَّيْخِ " إنْ عادَ ردْعٌ ، فقد (٩)
يَهيجُ هَياجاً جديداً غدا
وثَمَّ ضجيجُ المراكبِ جيئاً
ذِهاباً على النّهرِ فصْلاً رَوى
وتَخْتَصِرُ القاطراتُ الدُّروسَ
لِمنْ بالنُّهوضِ يُريدُ الذُّرى
هُنا للمُتابِعِ يبغي جَواباً
عَنِ القَومِ فَتّوا الحَصى ما عَصى
عَنِ " الجَرْمَنِ " اسْتَنْفروا كلَّ جُهدٍ
فحازوا السَّدودَ وخَلّوا السُّدى
لَهمْ شَغَفٌ بالحديدِ كما لو
بهِ خُلِقوا ، للتُّروسِ يدا
سَجيَّتُهمْ للغَلاظةِ تَنْحو
ولكنَّها الجِدُّ بأْساً ضَرى
لقد كَتبوا بالعُلومِ عُهُوداً
وهلْ بِسِوى العِلْمِ تُبنى العُلى
وعندَ وفاءٍ خُشونةُ حالٍ
وليستْ خُشونةَ طَبْعِ الوَرى
وليتَ السفائنَ تَنْداحُ حِمْلاً
بلُطْفِ النِّعامِ يُلينُ الجَفا
هِيامُ الكلامِ يَزيدُ لديْها
لتَشْرَحَ حالاً وكيفَ الْتَوى
فلمّا أبوها أرادَ الخلاصَ
إلى حيثُ قيلَ يُلاقي المُنى
أشارَ إليها وأُمٍّ عطوفٍ
لتَرْكِ الدّيارِ وهَجْرِ الوَنى
وفي ذا الخيارِ صلاحُ العَثارِ
ومِلْؤُ الجِرارِ وللبؤسِ لا
وحين اللّزومِ تدابيرُ تمّتْ
إلى أنْ صَعدْنا سفينَ الجَلا
وفي البحرِ كُنْتُ بِوسْطِ العُبابِ
أُداريهِ وَخْزاً كطعنِ المُدى
أُغادرُ أَرْضاً وداراً وأهلاً
وبَيتاً وحُبّاً وعَذْبَ الحِدا
إلى حيثُ كم فُرِشَتْ بوعودٍ
دروبٌ - زهوراً - وجيئتْ خَلا
نَسيرُ الظَّلامَ بوَضْحِ النّهارِ
على خَطِّ مَنْ باعَ وَعْدَ الثَّرا
يِعجُّ السَّفينُ بخَلْقٍ كثيرٍ
على الوعْد أَمضَوا صكوكَ الشِّرا
ولمّا ابْتَعدنا عنِ البَرِّ غَرْباً
بِضافِ الشُّعورِ لقلبي احْتوى
رجَفْتُ القُشَعْريرةَ اخْتَلَجَتْني
كنفْضِ الشُّجَيْراتِ وَقتَ الجَنى
هِيَ الْبَدْءُ حَمْلٌ جديدٌ لِشوْقِ-
الدِّيارِ ، وهلْ مثْلُهُ يُنْتَفى
وبِتُّ أَحِسُّ الدَّبيبَ بَليغاً
وأيْقَنْتُ حُبَّاً وطينَ الحَشا
وأنَّ الرُّبوعَ التي كُنْتُ آوي
هي الدَّمُ يَجْري ولَن يَثْخنا
ومَهما اسْتَطعْتُ التّسَلَِي غُدُوَّاً
فَقَبلَ الرَّواحِ يَعودُ الرَّنا
بسَوْداءِ قلبي إلى كُلِّ غُصنٍ
سقاني الرّحيقَ ودَرَّ الرِّضا
هناك انْشغالي بأرضِ احْتِضاني
وما كان يُرْوى بنَهْرِ الإِبا
هناك اصْطباحي بِرَحْبِ الضّواحي
ورَجعٍ يُناغي صفيرَ القَطا
أقولُ لذا البحرِ حينَ اعْتلى
أيا بحرُ خَفِّفْ هياجاً طَمى
لجأْنا إليْكَ لِواذاً بخيرٍ
وأنتَ العَميمُ بخيرِ الدُّنا
أُراقِبُ مَوْجاً وخَفْقٌ بقلبي
يزيد احْتِداماً كطَعْنِ القِنا
ووَجْهُ الغُروبِ يَميلُ الْتماساً
بحَدِّ الأُفَيْقِ كثيفِ الَهبا
ومعْ كُلِّ مَدٍّ تميدُ الجسومُ
وشُهْبُ الرَّوامِقِ بين المَلا
يَحلُّ الظَّلامُ وفي الوضْعِ عِكْرٌ
وفي النفسِ كَتْمٌ كصَمْتِ البَلا
حَنانَيْكَ يا بحرُ جئناكَ طَوْعاً
ونحنُ السُّعاةُ لبَذْلِ الوَلا
حنانَيْكَ يا مَن رَجَوْنا نَداكَ
ونحنُ العُفاةُ لنيلِ السَّخا
حنانَيْكَ يا مَنْ صَدَقْناكَ وُدّاً
فَهلاّ تُراعي لِصَفْوِ النُّوَى (١٠)
وعُنْفُ الأواذي يهيجُ ارْتطاماً (١١)
ومعْ كُلِّ مَوْرٍ يَعجُّ الرُّغا
وفي اللحَظاتِ انْطراحُ الشُخوصِ
وهَوْيُ انْكِبابٍ كَدَوْخِ القُلى (١٢)
وهَرْجٌ ومَرْجٌ وإرْزامُ خَوْفٍ
عَويلٌ تعالى وآيُ الدُّعا
وهَوْلُ المصيرِ يُكَشِّرُ ناباً
إلى أنْ غُمِرْنا كَغَمْرِ الدُّجى
عَرَفْتُ الفجيعةَ بعد اشْتِفاءٍ
وغيْري قليلٌ - ومُرَّ القضا
فأُمّي اسْتَوَدَّتْ أبايَ الْتِزاماً
بعَقْدِ الحياةِ إلى المُنْتَهى
هناك بقاعٍ عميقٍ ألَزّا
وكم ذا أُنادي ولا مِن صَدى
أَجوبُ الشّواطي وأُفْرِغُ شَوْقاً
وأَرجو الإلهَ بضرْبِ العَصا
فأمضي إليه وألْثُمُ رأْساً
وأمضي إليها بحُضْنِ الصِّبا
لكيْما أُداوي وأشفي افْتراقي
بِحَرِّ العِناقِ وحُنْوِ اللقا
تَجَلَّتْ وفاءُ بكلٍّ فَصيحٍ
عَنِ الْبؤسِ عانتْ ، عليها سطا
لها العُذْرُ ، لا شيءَ ، فُقْداً ، يُساوي
لدارٍ وأَهلٍ ، وما مِن فِدا
فقُلْتُ لأجلِ المواساةِ صَبْراً
وفُكّي القيودَ وطَوْقَ الأسا
لديْكِ إلى النََسَماتِ دُروبٌ
وفي طَوْعِكِ الْحُسْنُ قَصْراً بنى
ومِنْ وَجْهِكِ النُّورُ يُرْضي الليالي
فَتبْدو ضُحاءً ويُبْري العَشى
ومَنْ غادروكِ إلى الرّحَماتِ
فهمْ في الجِنانِ وسُكْنى الهَنا
ومَنْ أنتِ غادَرْتِ ، لا تحْزَني
فقد غادروهُ مَناحَ العَيا
فلا للخلافاتِ سوقٌ لَديْهمْ
ولا للحروبِ كما قد مَضى
وأضْحوا بزَرْعِ الغِذاءِ اكْتِفاءً
وحطُّوا السّلاحَ عَدا للعِدى
وكلُّ نُقاطِ الحدودِ اسْتحالتْ
إلى ساحِ وَصْلٍ وِداداً صفا
ولنْ تَجْزَعي لافْتِقادِ حبيبٍ
تَجَشَّمَ قَصْداً بدا مَرْهَما
فما عاد للإرْتِحالِ لُزُومٌ
وما عاد للعاطلينَ عَرا
فللشُّغْلِ طُرّاً قدِ اسْتُنْفِروا
وللكَدِّ والْكَسْبِ باتوا ضُرى
وحَلّتْ فِعالٌ محلَّ الكلامِ
فلا مِنْ بيانٍ بطَفْحِ اللَُغى
ولا لاجْتماعاتِ تَقْبيلِ كَتْفٍ
ولا للنّفاقِ لنيلِ العَطا
فنامي وقَرَّي لكِ العيْنَ حُلْماً
فبالحُلْمِ نَضحى أسودَ الفَلا
١- الجَدا : الغِنى
٢- نهر الرّايْن : أحد أهم أنهار القارة الأوروبية ، يَشقُّ ألمانيا ودولا أخرى ، ويعتبر شرياناً مهما في النقل البحري .
٣- السّنْخْ : أصل الشيء
٤- الجِدا : جمع جَدي ( ذكر الماعز ) .
٥- الطُّلا : العُنُق .
٦- حَبُّ الفَنا : العِنب اللؤلي او عنب الثعلب .
٧- الأبْهَر : أكبر شَريان في جسم الإنسان .
٨- فيزبادن : مدينةٌ ألمانية تقع على نهر الرّاين وبها قاعدة أميركية كبيرة .
٩- الرّايْخ : إسم سابق لألمانيا ويعني الإمبراطوية الألمانية .
١٠- النُّوى : جمع نِيّة .
١١- الأواذي : المَوْج . ١٢- القُلى: جمع قُلّة : الرأس .